الأخبارالرئيسية

كثر الكلام…الشيخ نوح

لطالما قرأ مفهوم الإحساس بالدونية قراءة مقلوبة. إن عقدة الشعور بالدونية متلازمة مع عقدة الاستعلاء.

إن أية قناعة بالأفضلية، تستبطن في داخلها إحساسا بالفشل والهشاشة والضعف، حيث تصبح آلية الحط من قدر الآخر قصد الرفع من الذات استراتيجية نفسية مهدئة للمخاوف الداخلية، ذلك أن من يتمتع بقيمة حقيقية، لا وهمية، لن يحتاج الحط من قدر من يعتبره أقل منه، لأنه مقتنع بذلك أصلا دون أي شعور منحط كشعور احتقار الآخر.

إن التنشئة الاجتماعية على ثقافة مريضة، تؤسس لمقولات وحقائق لا يدعمها الواقع ولنظريات متجاوزة، يخلق نفسيات مضطربة ومتناقضة في انفصام تام عن الواقع. ويصبح الأمر أكثر وضوحا حين نأخذ بعين الاعتبار الفشل البنيوي لمشروع الدولة الوطنية، وانهيار منظومة التعليم، وتفشي الفساد، وعودة الجماجم الميتة من المقابر لتحكم الواقع الحي والمتحرك.

مرة قال هيدغر ما معناه “كلما أصبح الواقع تعبسا، والمستقبل ضبابيا، كثر الطلب على التاريخ” وذلك بكل تأكيد لأن التاريخ يمكن تزييفه وتجميله وتقديمه بصورة رومانسية لا تمت للحقيقة بأية آصرة، هروبا من الواقع ومحاولة لتخفيف وطأة الفشل وضبابية المستقبل.

إن الوضع الاقتصادي السيء، والوضع التعليمي المهترئ، وانهيار المشاريع السياسية الكبرى التي قدمت نفسها لإصلاح المجتمع، وكذلك تضاعف الهوة المعرفية والعلمية والاقتصادية بيننا مع باقي البشرية، جعل منا مجتمعا فريدا بالمعنى الأكثر عجائبية وفانتازيا.

ولعل المعضلة لا تكمن فقط في هذه الأمراض النسقية في المجتمع، وإنما أيضا تتضاعف مرات حين تسربت هذه الأمراض إلى جهاز الدولة، والتي كان من المفترض أن يعير عن منظومة من القيم والقوانين، على شكل شخصية اعتبارية بلا مشاعر ولا عواطف، غير أنها تحولت إلى كانتونات قبلية وحهوية، يديرها أشخاص منحدرون من أوساط عرفت تقليديا كأوساط متحكمة في المجتمع في أطواره البدوية والبدائية، والتي أشكك في أنه غادرها قيد أنملة.

لقد أصبح الواقع ناطقا والطريق واضحا، فقد انتصرت القوى الظلامية والبدونة على القوى المدنية والسياسية، واختطف البلد إلى الوجهة الأظلم، بينما يظل الضحايا يتلاومون في الكهف إننا نشبه “بحيرة تجف وهي مليئة بالسمك، وهذا السمك أصبح يأكل بعضه بعضا” كما عبر عن ذلك أدونيس، منقطعين عن سياقنا الجغرافي والتاريخي والمعرفي، متقدمين إلى وراء الوراء، بينما يظل المسؤولون عن أمورنا مبتسمين على هوة الجرف ابتسامتهم الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى