جولات في ميدان الذهب /الشافعي عبدالله بوحبيني

بدأ التنقيب التقليدي عن الذهب في ربوع موريتانيا بشكل حقيقي ومعلن ، تقريبا عام 2015 .. كانت البداية بالتنقيب السطحي عن طريق أجهزة التسطيح وجلها من نوع 4500 أنذاك …
واقبل الناس على الأجهزة لشرائها .. وارتفعت أسعارها بشكل خيالي! حتى وصل سعر الجهاز الواحد لمليونين من الأوقية ، وسعره الآن لا يتجاوز 150 أوقية ..
باع البعض سيارته ، والبعض يبيع منزله ، والبعض استلف ليمول رحلة؛ قد تجعله من الأثرياء !!
من يومها بدأت حياة التنقيب والمنقبين التقليديين !!
استفاد من استفاد! وخسر من خسر!! … وهكذا هي الحياة!!
بدأ ما يعرف محليا ب ” لمجهار” وهي آبار الذهب !!
بدأ أول مجهر معتبر في تيجيريت شرق الشامي ، قرابة 150 كلم منه ..
وبدأت تلك الآبار تتطور وتتسع حيث تستخرج منها الحجارة ويقام بطحنها ثم تصفيتها في ماء فيه مادة الزئبق ، ثم بعد ذلك حرق مابقي لاصقا مع الزئبق لإنهاء عملية التصفية واستخراج الذهب خالصا .. وصارت مدينة الشامي ( التي لولا الذهب ما ذكرها ذاكر ، ولا زارها زائر ) – من أشهر مدن موريتانيا ، استقطبت السكان من جميع الولايات والجهات ، وتجد فيها من الأجانب ما ليس في العاصمة نفسها … وهي وجهة الباحثين عن العمل ، بل الثراء السريع ، وفرت المدينة كثيرا من فرص العمل ؛ وازدهرت فيها التجارة ، وغلى فيها العقار ، وارتفع الإيجار ….
نعد لميدان الذهب ” لمجهار ” حيث تطورت آليات الحفر ، حيث استخدموا حفارا آليا ” martou poukere” بدلا من حفار تقليدي ” pyouche” وكذلك استخدموا مجمع كهربائي ” Groupe” و اخترعوا ما يعرف محليا هناك ب ” كوموكو coumougo ” وهي الحفر في داخل البئر باتجاه معاكس ، ظلت هذه الطريقة يعملها حصرا إخوتنا الماليون ، مدة من الزمن بعدها ، وبعد أن اتسعت ” لمجاهر ” لم تعد حكرا عليهم ، اتقنها الموريتانيون أيضا..
استفاد الكثير من الناس في بداية ظهور الذهب سواء السطحي منه أو غيره ..
وكان جميع المهتمين طيبين يتعاملون بحسن نية مع بعضهم البعض …
فساد العدل والتضامن ..
وأنزل الله البركة في تلك الأرض وفي ما تخرج من معادن ، واستخرج منها الذهب أول ما استخرج من آبار في تيجيريت – كما سبق – في “مجهر اطوير الجنة” تحديدا نسبة لمكتشفه ، بكميات هائلة ، واستفاد هو والعمال معه ، وكذلك أصحاب المحلات التجارية هناك ، وأصحاب النقل … وبعدها “مجهر عبد الفتاح ” و ” مجهر اعميتن ” و ” مجهر لمرة ” و ” مجهر الدعاة ” وكل هذه الآبار ؛ ” لمجاهر ” استخرج منها الذهب بكميات معتبرة وكانت هي اقدم الآبار هناك بشكل استمر لسنوات ، وبعض هذه الآبار لازال يستخرج منه الذهب لحد اللحظة … وغالبها مهدد بالإغلاق!! بحجة بيع تلك الأرض لشركات معادن!!
ظهرت بقاع أخرى من تيجيريت ثم تازيازت … إلا أن تازيازت كان التنقيب فيها خطا أحمر .. وقد خاض المنقبين هناك مراواقات كثيرة مع الدرك هناك ، كانت تازيازت وجهة المنقبين أصحاب الأجهزة فقط ، في أول الأمر ، وبعدها صارت وجهة الجميع …
وبعد فترة من الزمن
سمح للمنقبين بالتنقيب !! بعد الكثير من المعانات ، لكن بين تلك المعانات وذلك الخوف ، و جد بعض المنقبين فرص ذهبية ” حقيقة ” حيث استفاد البعض في زمن عدم السماح لهم بالتنقيب في تلك البقاع ….
وفتحت بعد ذلك ” تفرغ زينة” وهي منطقة من تازيازت لها حظ من إسمها ، استخرج منها الكثير من الذهب ، لكنها سرعان ما أعلن عن بيعها لشركة كينروس تازيازت.. واغلقت ، وردمت تلك الآبار …
ظهر الذهب في مناطق متعددة من الوطن ك ” مقطع لحجار” و “الشوم” و” الشكات ” وأكليب اندور ” و “أكجوجت” … إلى آخر ذلك من البلدان التي لا زال يستخرج منها الذهب .. لكننا اختصرنا هذه الرحلة ، وهذا البحث على مدينة الشامي والمناطق المرتبطة به ك “تجيريت” “وتازيازت” لعدة أسباب من اههما : كونها مناطق ذهبية يتواجد فيها منجم كينروس تازيازت الذي يعد من ضمن أكبر مناجم العالم …
من ناحية فرص العمل ؛ يوفر ميدان الذهب الكثير من فرص العمل :
عمال التصفية ( وغالبا ما يكونوا من دولة السودان )
- عمال ماكينة طحن الحجارة ..
- النقل
- سائقي سيارات نقل من نوع 4×4
- عمال الحفر
- عمال محلات تجارية …
وغير ذلك من المهن والحرف الكثيرة ….
اما عن أصحاب المحلات التجارية في هذا الميدان : فقد استفادوا كثيرا في بداية نشأة هذا الميدان ، وقد تراجعت الاستفادة نظرا لعدة عوامل منها : تراجع استخراج الذهب نفسه في هذه الأوئنة ، ومنها نزوح البعض عن ممارستها ، نظرا لتجربته التي باءت بالفشل ، حيث أنه عامل أناسا ثم أقرضهم من محله ، فلم يسددوا له ، وراحت تجارته عبارة عن ديون في ذمة أشخاص ليس لديهم أي قدر من المسؤولية ، بعضهم اختفى ولم يعد بالإمكان الحصول على عنوانه أو مكانه …..
حدثني بعض أصحاب تلك المحلات أنه : غالبا ما يثق ببعض المنقبين ويتعامل معهم بلطف وتعاطف .. لكنهم غالبا ما يخيبوا ظنه ، فيخذلوه ، أخبرني أنه اقرض ملوينين من محله لأشخاص لم يصدق أنهم سيخذلونه ، لكنهم فعلوا ؛ ولم تصله اوقية واحدة من طرفهم ، والبعض منهم لازال يماطله …
وبمثل هذا حدثني أصحاب محلات أخرى …
راح بعض المحلات ضحية للدين على أشخاص ليسوا أهلا للثقة ، أو لفقراء لا يملكون ما يسددوا به دينهم.. لكن آمالهم واحلامهم كبيرة ، ففي أي وقت قد يجدون ضالتهم ، قد يصادفون ذهبا خالصا أو حجارة تعادل ذهبا … هكذا يحلم الجميع.. وليس ذلك مستحيلا بل حدث بالفعل مع كثيرين ممن جاء لا يملك ما يسد به حاجة يومه ، وصار من الأثرياء في ميدان الذهب هنا …..
وقد استفاد أصحاب النقل أيضا في هذا الميدان …
فالاستفادة والعمل والرفاهية والعيش برخاء مرهون بالذهب… كلما وجد الذهب بكثرة كلما استفاد الجميع، وعندما يقل يتأثر جميع من في هذا الميدان بذلك ..
وأصحاب المحلات آمنين على تجارتهم من اللصوص في أول الأمر ، فصاحب المحل لا يخشى على بضاعته ، حتى أنه يسافر عن محله ويعود له ولم يتفقد منه أي شيء !!
وكذلك صاحب البئر لا يخشى على حجارته…
وقد تراجع ذلك في الأوئنة الأخيرة .. فلا البضاعة آمنة مقارنة بالسنوات الأولى ، حيث لا يمكن لصاحب المحل أن يسافر عنه دون أن يخلف فيه أحدا ، لكن لا زال آمنا نوعا ما ، وإلا لكانت أبواب المحلات هنا من حديد بدلا من القماش ، لكن الحجارة مهددة بالسرقة خصوصا المستخرجة من آبار معروفة نسبة الخشنة منها ، والتي تصل نسبة الخشنة ” ازيكيبة ” الواحدة منها ما يفوق 18غ من الذهب … وقد سجلت أكثر من سرقة مؤخرا من هذا القبيل …. واللصوص هنا اجرأ على سرقة الحجارة منهم على البضاعة وغيرها …..
أما عن طبيعة التنقيب فطريقة العمل فيه حسب التوضيح التالي :
أ- التنقيب السطحي :
هذا لا يحتاج إلا لجهاز والأجهزة كثيرة ، من أكثرها استعمالا هنا :
4500 ، والوحش ، و كاريت “Garret” ، ومن أحسنها وأغلاها سعرا جهاز 7000 ..
ويكاد البحث والمسح يعم مناطق الذهب كلها تقريبا ، بإستثناء القليل منها .. ونظرا لذلك ؛ عمد أصحاب الأجهزة للتعاقد مع جرافات ، لحفر أكبر عدد من الأرض ، وبهذا استمر العمل .. حتى شكى ساكنة تلك الربوع من تلك الجرافات ، بحجة أنهم افسدوا الأرض ، واسقطوا الأشجار ، وعرقلوا الطرق ، وقامت السلطات بتوقيف تلك الجرافات بعد الشكوى وإثبات الضرر …
ب – الآبار : فطريقة العمل فيها حسب التوضيح التالي :
1 – مالك الحفرة : فهو من عثر على الحفرة ومن شروط ملكيتها أن تكون أول من حفرها أو عولمها ، ولم يسبقه أحد لها بالحفر أو وضع علامة عليها ، فهذا له الخيار فيها إن شاء فعًَلها بنفسه ، وإن شاء أعطاها لمن يقوم بتفعيلها..
وإن فضل إعطاءها لغيره ليُفعلها ، فله ذلك لكن بنسبة مئوية معينة ، وشهود وعقد مكتوب ، فبهذا جرت العادة او العرف في هذا الميدان ” لمجاهر” وكان في أول الأمر شبه متفق على هذا .. وقل ما حدثت مشاكل من قبيل الادعاء في امتلاك البئر .. لكن اليوم كثرت النزاعات، و المشاكل والاحتيال ، والظلم ، والادعاء بغير حق …
وقد حكى لي بعض الثقاة هناك أنه شاهد الكثير من الظلم ، وضرب لي مثالا عاما غالبا ما يحدث ؛ ذلك أن يتعب الممول في حفر بئر تكلف فيها مبالغا كبيرة ظنا منه أنه أخذ البئر من مالكها ، فلما يقترب الحصاد ، بعد حفر البئر قرابة 30 مترا في العمق .. يأتي من يدعي أنه صاحب البئر ، فيخلق بهذا نزاع…. وتتدخل السلطات ، فيكون الضحية الممول!!
يتم توقيف البئر في هذه الحال ، إلى أن يصل المدعيان لنتيجة أو تظهر الحقيقة ، وأحيانا يتم الاتفاق على نسبة مئوية معينة ، وأحيانا يتم توقيف البئر نهائيا ، وفي أحيان أخرى تنقطع عن البئر الحجارة التي توجد فيها نسب من الذهب نهائيا …….
يقول بعض المنقبين : أن سبب ما آلت إليه الظروف ؛ حيث يشكوا غالبية المنقبين هنا من قلة الذهب .. بعد ما كان كثيرا .. هو أنه كثر الخداع والكذب والإحتكار .. ونزعت البركة مع وجود هذه الثلاث !!
سألناه ماذا تقصد بالاحتكار ؟!
فرد علينا : الاحتكار معروف!! ما نزعت البركة إلا بعد أن تحاسد الناس ، واحتكروا المواقع المكتشفة ، المزعومة من طرفهم ، أنها ربما تحتوي على نسب من الذهب !! احتكروها باحتوائهم على أكبر قدر من مساحة الموقع المكتشف ؛ فالمكتشف “للعروق” كما يسمونها بوده أن لا يترك لغيره شيء من ذلك الموقع ؛ وهذا شيء جديد !! كان عندما يكتشف شخص ما موقع ” عرق ” يأخذ بئرا أو إثنين أو ثلاث ، ويترك بقية الموقع لغيره .. أما اليوم فبود الواحد أن يأخذ الأرض كلها … وهذا الذي أسميه الاحتكار!!
ويقول آخر : ردا على صاحبنا هذا ! أضف لهذه الثلاثة – ( الخداع ، و الكذب ، والاحتكار ) – دخول المرأة لهذا الميدان ومزاحمة الرجال !!
رغم أن بعضهن محظوظات ، فإني أفضل إن كان لابد من إشراكهن ، أن يكون ذلك عن بعد ، كما فعلن نساء كثر دون مجيئهم لهذا الميدان الصعب على الرجال فما بالك بالنساء!!
فقد كان دخول المرأة لهذا الميدان له تأثير على البركة ….
2 – الممول : و هو من يأخذ بئرا من مالكها ليفعلها مقابل نسبة لصاحب البئر غالبا ما تكون 30 % واحيانا تزيد وأحيانا تنقص ، فهي على ما اتفقا عليه …
3 – العمال : وهم من يقوم بالحفر واستخراج الحجارة .. يعملون مقابل نسبة مئوية غالبا ما تكون 25% تزيد ولا تنقص في الغالب.. بالإضافة لتوفير السكن المنحصر في خيمة ، والزاد المتمثل في :
الأرز ، والفول ، والزيت ” دلوير ” والسمك المعلب ” صردين ” وعلب من البسكويت ” امبسكيت سرغلة ” و البصل ، و اللبن المجفف ” سليا أو سفتي أو هما معا ” والماء للشراب … فهم لا يتكلفون بأي شيء ، ولهم الحق في هذه الأصناف من الزاد ، وليس لهم حق طلب تغييرها حتى ولو كانوا لا يطيقونها ، إلا إذا كان على حسابهم ، بهذا جرى العرف …
وهناك عمال الحفر فقط مقابل مبلغ معين ؛ 25 ألف للمترين “وكفة” وأحيانا يصل المبلغ ل 25 ألف اوقية للمتر الواحد …
4 – المقاولون : برزت فئة يفرضون وجودهم وهم الواسطة بين مالك الحفرة الأصلي والممول ، يأخذون الحفرة من مالكها الأصلي ، ثم يعطونها للمول .. بنسبة معينة ، كأن يأخذوا الحفرة من مالكها بنسبة 25% ويعطونها للمول بنسبة 35%
وبهذا يحصل المقاول على نسبة 10% دون أي عناء …
5 – ” الكولابة ” هم عمال يعملون لأنفسهم ، وعلى صنفين :
- كولابة شرعيين
- وكولابة غير شرعيين فالشرعيين : يلتقطون ما سقط من حجارة يمكن أن تحتوي على نسبة من خارج آبار مملوكة ، أو يدخلون آبار مهجورة ، أو آبار مأذون لهم بالدخول فيها من مالكها ..
أما ” الكولابة ” غير الشرعيين : فهم من يدخل آبار مملوكة لغيرهم دون إذن من صاحبها ..
ملاحظات عامة ونصائح هامة :
من خلال البحث والسؤال والتأكد ، وجدنا فعلا الميدان تشوبه بعض الأمور السيئة ؛ كعدم اهتمام أو رفق القوي بالضعيف ، او الفقير بالغني ..
وكذلك شاهدنا ظلم بين يمارس على بعض الأشخاص ممن ليس لهم نفوذ …
و شاهدنا إعلانات مكذوبة تستهدف الممولين لأجل تفعيل الآبار …
و شاهدنا غياب تام للإسعافات الأولية ، والأدوات الطبية اللازمة في حين – لا قدر الله – حدث سقوط لشخص ، أو هدم لبئر ، أو تعرض شخص ما لمرض خطير ……
ميدان تشوبه الكثير من الأمور السيئة ، لكنه لا يخلو من الطيبين ممن يخشى الله ويرجو الدار الآخرة .. ويرفق بالضعفاء ، ويدعو للفضيلة بفعله قبل قوله ….
حتما إذا صدق مالك البئر مع الممول ، وصدق الممول مع العمال ، وصدقوا العمال مع الممول وصاحب البئر .. وصدق الجميع مع الله ؛ ستكون النتائج إجابية لا محالة ، بإذن الله! …
من ناحية أمن الآبار .. هناك مخاطر تهدد جميع الآبار ” لمجاهر ” الجدد ؛ وهو تقارب الآبار مع بعضها البعض …
فعلى أصحاب الآبار التنبيه لهذا الخطر الوشيك ، وعلى هيئة معادن موريتانيا الانتباه ايضا بصفتها وصية على هذا القطاع …
لابد – على الأقل – أن تكون المسافة بين البئر والبئر المجاور له مترين ، أو 1,70m على الأقل .. فذلك ادعى للسلامة ، كما أنه يزيد من عمر البئر ، وكذلك كمية الحجارة المستخرجة منه ، وإذا رجعنا للآبار القديمة التي لا زالت تعمل ك ” اطوير اجنة ” مثلا نجد أن آباره متباعدة .. لا آبار “تفرغ زينة” ولا “اصبيبرات ” طبقوا هذا التباعد .. ولذلك وقع انهيار فيهما كما هو معلوم …..
ختاما كانت تلك نبذة مختصرة عن ميدان الذهب ، وما هو مرتبط به .. كتبت على عجالة ، تحمل في ثناياها نصائح وإرشادات ومعلومات لمن يهمه الأمر ، وتضمنت نداء وإن بشكل غير مباشر للحكومة لرفع الظلم عن المواطنين هناك ، ممن تعرض له ، إما من قبل أشخاص طبيعيين أو من قبل شخصيات معنوية …..
والله المستعان ..
الشافعي عبدالله