الرئيسية

بورتريه مصغر لنواكشوط الحزينة/الشيخ نوح


.
.
مدينة لا تحب النهار لأنه يكشف عورتها، ولا تحب الليل لأنها بدون مسارح ولا صالات ولا رعاة ولا نايات. بالظلام مغرمة بشدة؛ لأن مصابيح الإنارة العمومية والكهرباء أندر من الموظفين الكبار المستقيمين في البلد. ثلاثة أرباع سكانها يستقيظون بعيون محمرة ونفسيات خربة، مهجوسين بكيفية الحصول على ثمن نصف كيلوغرام من الدجاج التركي لإطعام أطفال؛ نصفهم يرتاد مدرسة حكومية منزهة عن جودة التعليم ونصفهم الآخر يتساءل:”ما هي المدرسة، وهل يوزعون فيها الخبز البلدي”؟. ثلاثة أرباع سكانها لا وقت لديهم لسماع فيروز صباحا، أو احتساء قهوة ساخنة، أو حتى تبادل تحايا لطيفة ترطب عتمة الفجر وملوحة تراب العاصمة الحافي. يشكّون في إنسانيتهم، ويتفاجأون حين تحدث أحدهم باحترام. نعم، حدث معي ذلك؛ عندما مررت بسيارتي من مكان مكتظ، ولمست عن غير قصد سطلا لأحدهم كان يبيع اللحم المشوي على قارعة الطريق، فنزلت من السيارة أطلب منه الصفح. كانت ردة فعله غاية في الغرابة والتراجيديا معا “بوي والله اللا جزاك الله خيرا، اسمح لي الا انت كاع، اللي توقف للناس وتطلب منها السماح!”، هكذا أجاب، فعقدت الدهشة لساني، ومضيت وفي داخلي نيران حزن أكالة. إن هؤلاء بعيدون عن منشورات المؤثرين والبالونات البدينة في وسائل التواصل الاجتماعي، وغير مرئيين لأصحاب الحسابات التي يتابعها الآلاف، رغم احتكاكهم بهم في واقعهم العملي. إنهم يمثلون نواكشوط المسحوبة من الفيسبوك، والمعتم عليها في وسائل الإعلام، والتي يضرب دونها ستار عندما تشرع الكاميرات في التهام المشاهد أو الأقلام في الرعاف لرسم لوحة لاعب كرة قدم في بلد لاتيني، أو خارطة سياسية، تعد الاستفادة الشخصية والهوس بالظفر بالحظ الشخصي من النهب، أهم محددات جغرافيتها. إنها نواكشوط المتن المحذوفة من متن الهامش الرديء للوعي الزائف. ثلاثة أرباع مقتطعة من جسد المدينة، وكأنها مقابر بشرية حية، يتجاهلها التاريخ وتثبتها الجغرافيا.
أما الربع الوحيد الحي من المدينة، فهو ذو فلل متواضعة في غالبها، لكنها أغلى من شقق باريس وفلل لاسبالماس، مشيدة بذائقة جمالية سقيمة. أحياء تضم بيوتا باهظة الثمن، تتراص بشكل عشوائي ومستفز، دون أي تناغم معجز، وكأنها تعبر عن تشتت نفسي وفوضى ثقافية تستوطن أصحابها، وكذلك تستوطن عقول من يتخذون القرارات في المؤسسة الوصية المسؤولة عن العمران في البلد. إنه الحي الوحيد في المدينة الذي سياراته أغلى من الطرق نفسها، وسكانه أكثر نفوذا من الوزراء، وعماله أكثر بؤسا من بائعات التبغ والنعناع والرصيد الإضافي.
مدينة ذات وجه تذر عليه الزوابع طحين غبارها الأحمر، وتفتح فيه بالوعات الصرف الصحي أفواهها المائة لتبصق ما في جوفها على وجوه المارة، ويزحف نحوها الاطلسي كفوهة خرافية لثقب أسود، تتهيأ لالتهام ما تبقى من هذا الخراب.
مدينة تليق بها لوحة من لوحات “القيامة” لمايكل أنجلو يكون عنوانها “الكارثة التي يبدو أهلها سعداء”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى